الحمد لله الذي من علينا بتوفيقه ، وأيدنا في تأليف هذه الرسالة بفضله ،
وقد جاءت محتوية على حقائق من تاريخ الإسلام ، وباحثه عن أحداث حدثت وبدع
ابتدعت في المسلمين ، معتمدة على اصول التاريخ والحديث وصحاحها ، ومستخرجة
من الكتب المؤلفة في القرون الاولى ، وها نحن نذكر مزايا ما يختص بهذا
الكتاب الشريف ، ليكون القاريء على بصيرة تامة .
1 ـ اعتمدنا في هذه الرسالة على الكتب المعتبرة من اهل السنة ، المؤلفة
خلال خمسة قرون من صدر الاسلام ، من كتب الأدب والحديث والتاريخ والصحاح
والسنن والسير والرجال والتفسير .
2 ـ وقد نقلنا عن الكتب المعتمدة المؤلفة المتأخرة ، عند الحاجة تأييدا
وتكميلا للبحث الوارد المنظور ، لا مستندا عليها .
3 ـ ذكرنا في آخر الكتاب فهرسا جامعا للقسمين من الكتب المنقول عنها مشيرا
الى خصوصيات الطبع والتجزئة .
4 ـ اعتمادنا في نقل الروايات على المشاهدة والقراءة في الاصول المستند
اليها ، من دون ان نتصرف فيها بشيء ، وأحيانا اسقطنا جملة أو جملات لا ربط
لها بموضوع البحث ، حذرا من الاطالة ، ووضعنا مكانها نقاط مترادفة .
5 ـ ذكرنا بعد نقل الروايات ما يستفاد منها على طريق الاجمال والاشارة ، من
دون قول بالرأى والنظر الشخصي ، أو كلام موهن ينشأ من الجهل والعصبية ،
وما نريد إلا
14
الهداية واصلاح أنفسنا ، والوقاية من الضلالة والغواية .
6 ـ اعرضنا عن نقل الأحاديث المكررة الواردة بأسناد مختلفة ، ولا سيما في
مسند أحمد ، طلبا للاختصار وتركا للمجادلة ، وإنما نروي الحديث بواحد من
طرقه .
7 ـ ابتدأنا في الكتاب بفتنة ـ وصية رسول الله (ص) ـ وهذه اول فتنة حدثت في
الاسلام ، واول احدوثه ظهرت في المسلمين ، شتتتشملهم وفرّقت جمعهم .
8
ـ قد ثبتت بصحاح الروايات المروية في الكتاب : أن الفتن المعنونة فيها بدع
وأحداث ظهرت في الإسلام ، وهذه البدع أوجبت انحراف المسلمين وميلهم عن
الحقائق وعن اهل بيت النبي الأطهار ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم
تطهيرا . وقد قال رسول الله (ص) : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي
أهل بيتي نسئل الله الباري عز اسمه التوفيق والسداد .
15
ألحمد لله الذي هدانا الى اتباع أوليائه ، والصلوة والسلام على أشرف رسله
وافضل انبيائه ، وعلي ابن عمه وخليفته والمعصومين من آله .
وبعد : فإن اكمل الأديان الالهية هو دين الاسلام الذي جاء به خير الأنام ،
عليه افضل التحية والسلام . وان اقرب الناس من الحق هم المسلمون ، الذين
يتبعون الرسول خاتم النبيين ، ويعلمون بما جاء به من عند رب العالمين .
« هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة » ـ الجمعة 3 ـ « كنتم
خير امة اخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله »
ـ آل عمران ـ 110 .
نعم كان المسلمون طول حياة رسول الله « ص » امة واحدة ، يعيشون تحت راية
الحق ، وفي ظل كتاب الله الحكيم ، يهتدون بهداه ، ويقتدون بنوره .
ثم بعد ارتحال رسول الله « ص » صاحب الدعوة افترقت الملة الاسلامية ،
وصاروا في ارتياب وحيرة ، صاروا بعد الهجرة أعرابا ، وبعد المولاة أحزابا ،
ما يتعلقون من الاسلام الا باسمه ، ولا يعرفون من القرآن لا رسمه ، وخلطوا
الحق بالباطل ، واضاعوا ما أوصاهم الرسول ، وضلوا عن سواء الطريق .
انهم ارتدوا عن عترة النبي الأكرم ، وهم اهل بيت النبوة ، وموضع الرسالة
ومختلف الملائكة ، ومهبط الوحي ، وخزّان العلم ، ومعدن الحكمة ، وقد قال
رسول الله « ص » : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي . وقال
الله تعالى « إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
ويطهركم تطهيرا » .
16
17
توصيت اهل البيت
كان رسول الله « ص » طول حياته يوصي المسلمين ويعرفهم باهل بيته ، ويقول
فيهم :
أذكركم الله في اهل بيتي .
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا .
اللهم هؤلاء آلي فصلّ على محمد وعلى آل محمد .
كل بني اثنى فإن عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فإني أنا عصبتهم وأنا
أبوهم .
واهل بيتي أمان لأمتي فإذا ذهب اهل بيتي أتى أمتي ما يوعدون .
أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم .
أحبوا أهل بيتي بحبي .
إن اول من يدخل الجنة أنت وفاطمة والحسن والحسين .
أني وإياك وهذا النائم يعني عليا وهما الحسن والحسين لفي مكان واحد يوم
القيامة .
يا علي الناس من شجر شتى وانا وأنت من شجرة واحدة .
وكان مما أنعم الله على علي بن أبي طالب انه كان في حجر .
18
رسول الله « ص » قبل الاسلام .
وانه اول من اسلم .
إن اول من يشري نفسه ابتغاء رضوان الله علي بن أبي طالب .
أمر بسد الابواب إلا باب علي .
انه كان صاحب لواء رسول الله « ص » يوم بدر وفي كل مشهد .
اللهم لا تُمتني حتى تُريني عليا .
لا تشكوا عليا فإنه لأخشن في ذات الله من أن يشكى .
من كنت مولاه فعلي مولاه .
من آذى عليا فقد آذاني .
اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله .
من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله .
ما دعوت لنفسي بشيء الا دعوت لك بمثله .
وما دعوت بشيء الا استجيبت لي الا انه قيل لي لا نبي بعدي .
أنت تُبين لامتي ما اختلفوا فيه بعدي .
هذا أخي في الدنيا والآخرة .
أنت اخي ترثني وأرثك .
من اطاع عليا فقد اطاعني ومن عصى عليا فقد عصاني .
الله أدر الحق معه حيث دار .
علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض .
من فارقك يا علي فقد فارقني ومن فارقني فقد فارق الله .
فاختار الله رجلين احدهما ابوك والآخر بعلك .
أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب .
والويل لمن أبغضك بعدي .
أنه سيد المسلمين وامام المتقين وقائد الغرالمحجّلين .
يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ليس بفرار .
19
اللهم اكفه اذى الحر والبرد .
لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود افضل من اعمال امتي الى يوم
القيامة .
امرني بحب اربعة وأخبرني انه يحبهم .
لا يحب عليا منافق ولا يبغضه مؤمن .
اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي .
ان عليا مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي .
وهو وليكم بعدي .
أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي .
أنت يا علي صفيي وأميني .
لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي .
من يريد أن يحيى حياتي ويموت موتي ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي فليتول
علي بن أبي طالب فإنه لن يخرجكم من هدى .
لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذوالفقار .
ليبعثن الله عليكم رجلا يضرب رقابكم على الدين قد امتحن .
هذا فاروق هذه الأمة وهذا الصديق الأكبر ويعسوب المؤمنين .
النظر إلى وجه عليّ عبادة .
إن عليا أقرب الناس برسول الله « ص » .
ادفع هذه الأترجة الى ابن عمك ووصيك علي .
أنا دار الحكمة وعلي بابها .
أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب .
ان الله سيهدي قلبك ويثبّت لسانك .
إن الأمة ستغدر بك بعدي .
هذا أمير البررة وقاتل الفجرة منصور من نصره
* * *
20
هذه الأحاديث خلاثة ما قيل في آل النبي الأكرم وفي الامام علي بن أبي طالب ،
الصادرة عن رسول الله « ص » طول حياته ، بمسمع من المسلمين ومرأى منهم ،
وقد روتها صحاح كتب الحديث لأهل السنة والجماعة .
نعم ! هذه الكلمات الإلهية نطق بها لسان الوحي وصدرت عن سيد المرسلين ورسول
رب العالمين ، وما ينطق عن الهوى أن هو الإ وحي يوحى ، فعرّف للمسلمين ابن
عمه اميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ، وأشار في مقامات مختلفة وفي موارد
مقتضية الى خلافته ووصايته وعلمه وحكمته وولايته وقربه وطهراته ، ولزوم
طاعته وحبه ونصرته وكونه مع الحق ومع القرآن ومع الله ومع الرسول ، والى
أنه الصديق الأكبر والفاروق و الولي والمختار من الله وسيد العرب وإمام
المتقين واحب الخلق عند الله وأول من أسلم وأول من شرى نفسه وصاحب اللواء
وأخو رسول الله « ص » وبمنزلة هارون من موسى .
إن رسول الله « ص » قد عرف للمسلمين مقام علي بن أبي طالب « ع » في موارد
كثيرة ، وذكر فضائله ومناقبه في طول حياته ، وصرح بوصايته وولايته وخلافته
بعبارات صريحة واشارات لطيفة وكنايات حسنة ، لا يرتاب فيها طالب الحقيقة ،
ومن جاهد فينا لنهدينّهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين .
« تقديم علي بن أبي طالب « ع » » ان رسول الله « ص » قدم اميرالمؤمنين علي بن أبي طالب « ع » على جميع
الصحابة وحتى على أبي بكر وعمر وعثمان في موارد كثيرة وأعلم الناس بفضله
وتقدمه واولويته وقربه .
منها ـ في الدعوة لأكل الطير معه ، ومنها ـ في
توليته في فتح خيبر ، ومنها ـ في اداء البراءة ، ومنها ـ في غدير خم ،
ومنها ـ في المؤاخاة لنفسه ، ومنها ـ في غزوة الخندق ، وفي موارد اخر ، كما
ان رسول الله « ص » قدم اسامة على رؤوس المهاجرين والأنصار وأمّره عليهم ،
وقال في جواب اعتراضهم : ان طعنتم في امارته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه
من قبل ، وأيم الله ان كان لخليقا للامارة ،
21
وان ان أحب الناس إلي .
إن الناس لم يتمكنوا من الطعن في علي « ع » زمان حياة رسول الله « ص » لشدة
قربه منه ولعظمة مقامه عنده وكونه أحب الناس اليه وانه اخوه وابن عمه
وصهره بل وكنفسه ، كما في الآية الكريمة ـ قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم
وأنفسنا وأنفسكم ، وقوله « ص » ـ ان عليا مني وأنا منه ، وأنا وأنت من شجرة
واحدة ، ما دعوت لنفسي بشيء الا دعوت لك بمثله . وقال « ص » لا تشكوا عليا
فإنه لأخشن في ذات الله من أن يشكى ، ومن عصى عليا فقد عصاني ، ومن آذى
عليا فقد آذاني ، وما يقرب منها .
ثم اذا ارتحل رسول الله ( ص ) فعلوا ما فعلوا وقالوا ما قالوا وطعنوا ما
طعنوا ، آذوا عترة رسول الله ، وخالفوا اهل البيت ، بل عادوهم وأبغضوهم
وفارقوهم ، ودعوهم الى البيعة والطاعة والخضوع ، وأخذوا ما في ايديهم ،
وأمالوا الناس عنهم ، حتى قال بعضهم : والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن الى
البيعة . وقال سلمان : كرداد ونا كردادأي : عملتم وما عملتم ، لو بايعوا
عليا لأكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم .
في مسند أحمد : قال رسول الله « ص » : ليردن عليّ
الحوض اقوام فاذا رأيتهم اختلجوا دوني ، فأقول : أي ربّ ! اصحابي ! اصحابي !
فيقال انك لا تدري ما أحدثوا بعدك
(1) .
والعجب من هؤلاء الرجال كيف نسوا في مدة قليلة ما قال رسول الله « ص » :
انما فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني ، وان الله يغضب لغضب فاطمة ،
ويؤذيني ما آذاها ومن آذى رسول الله فقد حبط عمله ، واذا دخلت عليه قام
اليها واخذ بيدها وقبّلها ، واجلسها في مجلسه ، أنا الشجرة وفاطمة فرعها ،
وروايات آخر .
فهؤلاء أحدثوا ، وأبدعوا ما أبدعوا ، وظهرت الفتن ، واستترت
1 ـ مسند أحمد ، ج 5 ص 400 وقريبا منها ص 393 .
22
الحقائق ، وانكسفت شموس المعرفة ، وشاعت الآراء والأهواء المختلفة ، الى أن
قال علي « ع » : اما والله لقد تقمّصها فلان وأنه ليعلم أن محلي منها محل
القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى اليّ الطير ، فسدلت دونها ثوبا
وطويب عنها كشحا ، وطفقت ارتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية
عمياء
(1) .
اللهم إنا خرجنا نشكوا اليك فقد نبيّنا ، وتظاهر الزمان علينا ، وكثرة
توارد الفتن علينا ، وشدة المحن المستصعبة .
« الولاية تكوينية لا تشريعية »
ومن عقائدهم الواهية السخيفة أن النبي والامام ليسا بممتازين عن سائر الناس
، ولا فرق بينهما وبين أفراد اخر الا بتعلق تكليف به من الله ينصبه علما
لرسالته وتبليغ احكامه ، أو بتصويب الناس واختيارهم وانتخابهم من يشاؤون
ولو لم يكن أعلم الامة وأفضلها واتقاها ، وهم في هذا القول شركاء الكفار ،
حيث قالوا ـ فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا الا بشر مثلكم يريد أن
يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة .
نعم لهم أعين لا يُبصرون بها الحقائق والآيات الإلهية ، ولهم آذان لا
يسمعون بها الأصوات الغيبية والدعوات الربانية ، ولا يرون الا ظواهر هذا
العالم ، ولا يقبلون كرامة ولا فضيلة ومقاما الا بما يشاهدون بنظرهم المادي
المحدود ، ثم يسوّون بين افراد الناس ، ولا يختارون من اصطفاه الله
واختاره .
أخبار اصبهان : عن أبي هريرة قال : سمعت النبي « ص
» يقول : اذا خلق الله خلقا للخلافة مسح بيمينه على ناصيته
(2) .
أقول : الناصية عنوان الوجه ، وفيها يظهر اثر النور
والظلمة والتوجه الى الله تعالى . ومن مسحت ناصيته بيد الله تعالى فهو على
نور من ربه . وهذا في مقابل
1 ـ نهج البلاغة خطبة 4 .
2 ـ أخبار اصبهان ج 1 ص 130 .
23
من أخذت ناصيته ، كما قال تعالى : يُعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي
والأقدام .
وقد قال الله تعالى : أم يحسدون الناس على ما آتيهم من فضله فقد آتينا آل
ابراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما . وقال تعالى ـ ان الله اصطفى
آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل مران على العالمين . وقال تعالى ـ يا مريم ان
الله اصطفيك ، وطهرك ، واصطفيك على نساء العالمين . وقال تعالى ـ ان الله
اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء .
وانهم لم يفهموا أن التكليف والتشريع تابع للتكوين ، ولا يكلف الله نفسا
الا وسعها ، ولا يُكلف الله نفسا الا ما آتاها ، ولا تُكلف نفس الا وسعها .
فكما ان الحيوان ليس له وسع التكاليف الانسانية ؛ فالانسان العادي ليس له
وسع الوحي والالهام والتكليم ، ولا يمكن تعلق التكليف والتشريع الا بعد أن
آتى الله ما به يتحقق الاستعداد والتحمل والوسع ، وكما ان الاستعداد من جهة
الصفات النفسانية والأخلاق باطنية مختلفة شدة وضعفا كذلك مراتب النفوس
ودرجاتها متفاوتة . بل الصفات والأخلاق النفسانية والقوى الباطنية كلها من
اطوار النفس ، والنفس في وحدتها كل القوى .
وهذا امر ثابت في الفلسفة الالهية ، بل أمر مسلّم محسوس مقطوع لمن تدبر
ونظر ثم نظر وتدبر ، ولا ينكره الا من حُرم من البصيرة ، وأبعده الله عن
الحقيقة ، وليس له من الروحانية نصيب ، وفي أبصارهم غشاوة .
« الامام من هو ؟ »
إن النبي : هو المبعوث من الله تعالى بالوحي والالهام ، لأداء الأحكام
وتشريع الدين وبيان الحقائق وتنظيم القوانين والاداب في الشؤون المختلفة .
والامام : هو المحيط بتلك الأحكام العالم بتلك الحقائق والعارف بتلك الآداب
والقوانين علما من لدن حكيم خبير ، لا بالعلم التحصيلي وبالطرق المتداولة
المعمولة بين الناس . فالنبي هو المؤسس والشارع ، والامام هو وارثه
وخليفته
24
وولي امره وحافظ دينه وشارح معارفه واحكامه وآدابه .
وكما أن علوم النبي ومعارفه حضورية ومن الله كذلك علوم الامام ومقاماته
الروحانية ليس باكتسابية بل من الله تعالى ، ولذا ترى احاطتهم بالعلوم
والمعارف الحقة وعلمهم بالأحكام والآداب الاسلامية ، من دون الدرس
والتحصيل والبحث والتتلمذ والتجربة ، ومن أول أوان الامامة الى آخرها بل
وقبلها ، وفي زمان الصباء والشباب وبعدها ، ومن دون أن يقولوا خلافا ،
ويرتكبوا سهوا وخطاء ، أو يخالف قولهم أحكام النبي ، أو يخالف حكم واحد
منهم واحدا آخر ، ومن دون أن يحتاجوا الى الفكر والتدبر والتأمل .
وهذا من المحالات في سائر افراد الناس ، وان بلغوا في تحصيل العلم ما بلغوا
، فإن الانسان محل السهو والنسيان ، وليس كل مجتهد مصيب ، وكل عالم ما
جهله أكثر مما علمه ، وكفى المرء نبلا أن تُعد معايبه .
قال اميرالمؤمنين « ع » : منها يعني آل النبي عليه الصلاة والسلام :
موضع سره ، ولجأ امره ، وعيبة علمه ، وموئل حكمه ، وكهوف كتبه ، وجبال
دينه ، بهم اقام انحناء ظهره ، وأذهب ارتعاد فرائصه ... لا يقاس بآل محمد
صلى الله عليه وآله من هذه الامة احد ، ولا يُسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه
ابدا ، هم اسا الدين وعماد اليقين ، اليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي
، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة ، الآن اذ رجع الحق الى
اهله ، ونقل الى منتقله
(1) .
فاذا كان في الامة بعد ارتحال الرسول « ص » من هذه صفتهم : فكيف يعقل أن
يتوجه الى آخرين ، وكيف يجوّز العقل أن يختار الناس لها من يشاؤون ، وكيف
يرضى الله تعالى ورسوله أن يتقدم من هو متأخر ، وأن يُنصب للاصلاح والتعليم
والتربية وحفظ المعارف من يحتاج الى اصلاح امره وتربية نفسه وتحصيل العلوم
والمعارف ، وكيف يكلف الناس من جهة الشرع أو العقل أن يطيعوا ويتبعوا ممن
هو في مرتبتهم ، بل وفيهم من هو أحق وأفضل ، بل وفيهم من
1 ـ نهج البلاغة خطبة 2 .
25
لهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة .
« شكوى اميرالمؤمنين علي « ع » »
يقول علي « ع » في النهج حتى اذا قبض الله رسوله صلى الله عليه وآله ، رجع
قوم على الأعقاب ، وغالتهم السبل ، واتكلوا على الولائج ، ووصلوا غير الرحم
، وهجروا السبب الذي أمروا بمودته ، ونقلوا البناء عن رص أساسه ، فبنوه في
غير موضعه ، معادن كل خطيئة
(1) .
وفي مستدرك الحاكم عن علي « ع » قال : ان مما عهد الي النبي « ص » ان الإمة
ستغدر بي بعده
(2) .
ويروي ايضا عن ابن عباس قال ، قال النبي « ص » : اما انك ستلقى بعدي جهدا !
قال : ي سلامة من ديني ؟ قال : في سلامة من دينك .
وعن علي « ع » قال : قال لي رسول الله « ص » : ان الامة ستغدر بك بعدي وأنت
تعيش على ملتي وتقتل على سنتي من أحبك أحبني ومن أبغضك ابغضني ، وان هذه
ستُخضب من هذا يعنى لحيته من رأسه
(3) .
اقول : راجع في تحقيق غدر الامة مبحث وصية رسول
الله « ص » وفتنة السقيفة من هذا الكتاب ، ثم الى مباحث اخر ، حتى تعلم ما
صنعوا بعد نبيهم ، بل غدرهم في آخر ساعات من حياته ، ومخالفتهم وصية رسول
الله « ص » .
ويشير علي « ع » الى خلاصة غدرهم ونتيجة صنيعهم في حقه :
في تاريخ الطبري : عن علي « ع » : أن النبي « ص »
قبض وما أرى أحد أحق بهذا الأمر منّي ، فبايع الناس أبا بكر فبايعت كما
بايعوا ، ثم أن ابا بكر هلك وما أرى أحدا أحق بهذا الأمر منّي فبايع الناس
عمر بن الخطاب فبايعت كما بايعوا ، ثم ان عمر هلك وما ارى احدا احق بهذا
الأمر مني فجعلني سهما من
1 ـ نهج البلاغة 150 .
2 ـ مستدرك الحاكم ج 3 ص 140 .
3 ـ نفس المصدر ص 142 .
26
ستة أسهم فبايع الناس عثمان فبايعت كما بايعوا ، ثم سار الناس الى عثمان
فقتلوه ثم أتوني فبايعوني طائعين غير مكرهين ، فانا مُقاتل من خالفني بمن
اتبعني ، حتى يحكم الله بيني وبينهم
(1) .
اقول : الولاية الحقيقية بجعل الله تعالى واعطائه ،
وهي مرتبة تكوينيّة روحانية ومقام معلوم لا يزيد باقبال الناس وتوجههم ،
ولا ينقص بادبارهم واعراضهم . كما ورد بأن الامام كالكعبة يؤتى ولا يأتي .
وأما الإمارة والخلافة الظاهرية فهي تتحصل باقبال الناس وتوجههم واعتبارهم ،
وتنتقي بأدبارهم ومخالفتهم فإن اساس هذه الخلافة تحقق السلطنة الظاهرية
والنفوذ والحكومة والغلبة للحاكم ، بأي وسيلة كان وبأي طريق وقع حق أو باطل
. ولكل من هاتين الخلافتين آثار واحكام شرعية وعقلية وعرفية ، ولا ربط
باحديهما الى الاخرى .
ثم ان الأحق بالولاية الظاهرية من كانت له ولاية حقيقية باطنية ، فإنه أولى
لاجراء الأحكام والقوانين الدينية ، وهو أعلم باصلاح امور الناس دنيوية
وأخروية ، وانه مأمون عن الانحراف والضلال والاضلال ، وهو احرى بالاتباع
والاهتداء ، وهذا معنى قوله « ع » : وما أرى احدا أحق بهذا الأمر مني .
ولما
كان الامام له أن يفسرا الحقائق ويبيّن الأحكام ويحفظ معارف الدين ويدفع
الشكوك والشبهات فليس من وظائفه أن يأتي الناس ويدعوهم اليه ويبلّغ الأحكام
ويجاهد في التبليغ والدعوة . بل لهم ان يأتوا الامام ، ويستفيدوا من محضره
، ويهتدوا بهديه ، ويستنيروا بنوره ، ويستكملوا بتعاليمه وتربيته .
ومن الأسف : ان اكثر الناس عن طريق السعادة لناكبون
، وعن صراط الحقيقة لمعرضون ، وعن الله وعن رسوله وعن اوليائه لمعتزلون ،
يريدون متاعا من الحياة الدنيا وهو عن الآخرة غافلون .
وما أقبح ما صنعوا حيث خالفوا أهل بيت رسول الله « ص » وأعرضوا عن طريقة
أئمة الهدى ، الذين قال فيهم الرسول : اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله
1 ـ تاريخ الطبري ج 5 ص 171 .
27
وعترتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا ابدا . بل ولم يقنعوا ولم يكتفوا بتركهم
والاعراض عنهم ، وشرعوا بالتهمة والسب والشتم . وكادوا يظنون ان هذا
المنكر من المعروف ، وانهم يتقربون بها الى الله تعالى ، فانظر ماذا يقول
الامام علي بن الحسين « ع » في ديدنهم .
في الطبقات قال منهال : دخلت على علي بن الحسين
فقلت : كيف اصبحت اصلحك الله ؟ فقال : ما كنت أرى شيخا من اهل المصر مثلك
لا يدري كيف اصبحنا فأما اذ لم تدر فاخبرك : اصبحنا في قومنا بمنزلة بني
اسرائيل في آل فرعون إذ كانوا يذبحون ابناءهم ويستحيون نساءهم ، وأصبح
شيخنا وسيدنا يُتقربُ الى عدونا بشتمه أو سبه على المنابر ! واصبحت قريش
تعد ان لها الفضل على العرب ! لأن محمدا « ص » منها ، لا يعد لها فضل الا
به ، واصبحت العرب مقره لهم بذلك ، واصبحت العرب تعد ان لها الفضل على
العجم لأن محمدا « ص » منها لا يعد لها فضل الا به ، واصبحت العجم مقره لهم
بذلك ، فلئن كانت العرب صدقت ان لها الفضل على العجم وصدقت قريش ان لها
الفضل على العرب لأن محمدا « ص » منها : إن لنا أهل البيت الفضل على قريش
لأن محمدا « ص » منا ، فاصبحوا يأخذون بحقنا ولا يعرفون لنا حقا ، فهكذا
اصبحنا اذ لم تعلم كيف اصبحنا
(1) .
« من هم اهل البيت ؟ »
أهل الرجل واهل بيته خواصه ، والخواص تختلف مصداقا باختلاف الموارد
والأفراد والحالات .
فأهل النبي من خاصة أهله الذين لهم اختصاص بالنبي من جهة الايمان
والروحانية والمعرفة .
وأهل النبي بعد ارتحاله هم الذين يختصون به في زمان حياته وبعد رحلته
1 ـ الطبقان ج 5 ص 219 .
28
ولا ينقطع اختصاصهم بالموت .
فاهل بيت كل رجل خواصه بحسب حاله ومقامه .
وقد يكون الولد خارجا عن الأهل اذا انقطع الاختصاص وانتفى الارتباط ، كما
قال الله تعالى : انه ليس من اهلك انه عمل غير صالح .
فاللازم في مفهوم الأهل هو قيد الاختصاص ، واطلاقه على الزوجة والأولاد ،
من جهة اختصاصهم بالرجل ، واذا فقد الاختصاص انتفت الأهلية .
ويقال اهل القرية ، أهل المدينة ، أهل الكتاب ، أهل الله ، أهل المعرفة ،
أهل العلم ، أهل البيت ، أهل التقوى ، أهل الذكر .
ولما كان هذا المفهوم عنوانا كليا غير متعين فقد عرّف رسول الله « ص » اهل
بيته وعيّن الخواص من عموم اهله وصرّح بأسمائهم واشخاصهم في الأحاديث
الآتية ، ثم وصى بهم وذكر مقاماتهم .
« أهل البيت وآل محمد »
مسند أحمد
: عن ام سلمة قالت : بينما رسول الله « ص » في بيتي يوما اذ قالت الخادم :
ان عليا وفاطمة بالسدة ، فقال لي قومي فتنحّي لي عن اهل بيتي قال فقمت
فتنحيّت في البيت قريبا ، فدخل علي وفاطمة معهما الحسن والحسين وهما صبيان
صغيران ، فاخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبلهما واعتنق عليا باحدى يديه
وفاطمة باليد الأخرى فقبل فاطمة وقبل عليا فاغدف عليهم خميصة سواداء ، فقال
اللهم اليك لا الى النار انا وأهل بيتي قالت : فقلت وانا يا رسول الله
فقال : وأنت
(1) .
وعن ام سلمة : ان رسول الله « ص » قال لفاطمة ائتيني بزوجك وابنيك ، فجاءت
بهم ، فالقى عليهم كساء فدكيا ثم وضع يده عليهم ثم قال : اللهم ان هؤلاء آل
محمد فاجعل صلواتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد انك حميد
1 ـ مسند أحمد ج 6 ص 296 .
29
مجيد ، قالت فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي وقال انك الى خير .
اقول : كلمة وأنت في الحديث الأول تصديق بكونها الى
الله لا الى النار ، لا في كونها من اهل البيت ، ويؤيّد هذا المعنى قوله «
ص » في الحديث الثاني ـ إنك الى خير ـ حيث استدعت أن تكون معهم وتدخل في
الكساء .
« اهل البيت والثقلين »
في صحيح مسلم : باسناده عن زيد بن أرقم قال يا ابن
اخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله « ص
» فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلّفونيه ، ثم قال : قام رسول الله « ص »
فينا خطيبا بماء يدعى خمّا بين مكة والمدينة فحمد الله واثنى عليه ووعظ
وذكر ، ثم قال اما بعد : ألا ايها الناس فانما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول
ربي فاجيب ، وانا تارك فيكم ثقلين اولهما : كتاب الله فيه الهدى والنور ،
فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ، ثم قال :
واهل بيتي ، اذكّركم الله في اهل بيتي اذكّركم الله في اهل بيتي اذكّركم
الله في اهل بيتي ، فقال له حصين ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من اهل
بيته ؟ قال : نساؤه من اهل بيته ، ولكن اهل بيته من حرم الصدقة بعده قال :
ومن هم ؟ قال : آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس
(2) .
اقول : نقل في حاشية الكتاب ، قال القاضي : يعني أن
نساءه من أهل مسكنه ولسن المراد ، وإنما اهل بيته واهله وعصبته ـ انتهى .
وفي
تعميم الكلمة حتى تشمل آل عقيل وآل جعفر وآل عباس نظر لا يخفى على البصير ،
وهو تفسير بالرأي .